العربية بين ماض زاهر…وحاضر عاثر
مكانة العربية قديماً
غَبَرَ
على الناس زمانٌ كانت العربية فيه تحتلُّ المكانةَ الأولى بين العلوم عند
الكثرة الكاثرة منهم, فقد كان طالب العلم يبدأ رحلته العلمية بمعرفة علوم
العربية المختلفة ـ من نحو وصرف وبلاغة وعروض ـ معرفةً بصيرة يتمكّن فيها
من ناصية اللغة, ويجتنب اللحن والخطأ في ظاهر القول وما يسطره القلم, بل إن
تلك المعرفة كثيراً ما كانت تخوّله التصنيف في بعض علوم العربية برغم
تخصصه المختلف, أو شهرته في غيرها من العلوم كعلوم الطبِّ والفلسفة والقرآن
والحديث… وغيرها. * دواعي هذه المكانة وقد عزَّز هذه المكانة للعربية
اهتمام أولي الأمر بها وإعلاؤهم لشأنها بدءاً من الخلفاء في مجالسهم
ومحافلهم, وانتهاءً بالعاملين في مجالات الدولة المختلفة من وزراء وحجّاب
وأمراء وكُتَّاب..
وليس أدل على هذه المكانة من تسمية رسول الله ‘
اللحنَ في القول ضلالاً’, وذلك عندما لحن أحدهم في حضرته فقال:"أرشدوا
أخاكم فقد ضلَّ" وماذا بعد الضلال إلا الخسران المبين؟.
ولعل في
كلمة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عامله أبي موسى
الأشعري ما يُؤْذِنُ بهذه المكانة وذلك الاهتمام’, فقد كتب إليه:"خذ الناس
بالعربية فإنها تَزيد في العقل وتُثبتُ المُروءة" وكتب أيضاً في الآفاق ألا
يُقرئ القرآن إلا صاحب عربية’. بل إن ولادة علم النحو كانت بإيعاز من
الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه’, فإليه ينسب هذا العلم
الجليل وهو الذي أمر أبا الأسود الدؤلي أن ينحوَ نحوَه’.
وتمرُّ
الأيام وتتعاقب السنون ومكانة العربية أبداً في نماء وصعود’. فعبد الملك بن
مروان أشهر خلفاء بني أمية يخشى اللحن ويتجنَّبُه’, وفي ذلك يقول:"شيبني
ارتقاء المنابر واتقاء اللحن" والحجاج يتوخّى ألا يُسمع منه لحن في كلام
أبداً فهو أفصح الناس في زمانه’, وعندما يبلغه أن ابن يَعْمَر وقع على لحن
له في كتاب الله عزّ وجلّ يعالج الأمر بطريقته الحجاجيّة’! فينفيه من بغداد
ويلحقه بخراسان قائلاً:"لا جَرَم’, لا تَسمَعُ لي لحناً أبداً ".
وهكذا
بات التمكن في اللغة وامتلاك ناصية البيان وفصاحة اللسان قيمةً مقدسة’,
ومكرمةً متوارثة, وفضيلةً يتداعى إليها الناس, فينشِّئ الوالد ابنه عليها,
وتدعو القبيلة أبناءها إليها, بل تفخر بمن اشتهر بها أو عُرف بالتمكن منها,
ويتغنّى الشعراء بمن حازها, وينحُون باللائمة على افتقدها, ويعدُّون ذلك
عيباً فيه وفي ذلك يقول قائلهم:
كفى بالمرءِ عيباً أن تراهُ
لَهُ وجهٌ وليسَ لهُ لسانُ
وما حُسْنُ الرجالِ لهمِ بزَيْنٍ
إذا لم يُسعِدِ الحُسْنَ البيانُ( )
بل وصل الأمر بهم إلى حدِّ الاستعاذة من فقدها’:
أعذني ربِّ من حَصَرٍ وعِيٍّ
ومن نفسٍ أُعالجُها علاجا( )
وفاقد
الفصاحة والبيان يفقد أهم مقومات الحياة عند العرب وهي المروءة, يقول يونس
بن حبيب: "ليس لعَيِيٍّ مُروءة, ولا منقوص البيان بهاء, ولو بلغ ما فوخُهُ
أعنان السماء".
العربية اليوم
ثم
أتى على الناس زمان تَنكَّروا فيه للعربية بعد طول تعهّد وعناية, وهجروها
بعد طول وصالٍ ورعاية, وزهدوا فيها وعزفوا عنها بعد طول تقدير وتقديس, بل
وصل الأمر ببعضهم إلى حدود المقت والقِلى, والبغض والمحاربة بعد طولِ
الكَلَفِ والحب, والعشق والهيام!!.
وإن تعجب فعجبٌ أن يمتد أثر ذلك
إلى بعض طلبة العلم الشرعي, فتراهم مع حرصهم المحمود على علوم الكتاب
والسنّة والفقه والسيرة أبعدَ الناس عن علوم العربية, وكأن بينها وبينهم
أمداً بعيداً أو ثأراً قديماً, أو حجاباً مستوراً, فهم لا يأبهون لها ولا
يعيرونها أدنى اهتمام. فأين هؤلاء من لغة القرآن؟! وأين هم من أفصح من نطق
بالضاد ؟! وأين هم من علماء السلف الذين كان الواحد منهم حجّةً في اللغة
قبل أن يكون حجّة في الحديث أو التفسير أو الفقه أو القراءات؟! ولا غرْو
فتعلم العربية عندهم ـ أعني علماء السلف ـ فرض كفاية لا يتم لأحدٍ علمه إلا
به, وهو من علوم الآلة التي كان طالب العلم يأخذ نفسه بها قبل أن يشرع في
تعلم أي علم سواها, وما أكثر ما حثَّ علماؤنا عليها’, من ذلك ما نصّ عليه
شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه حيث قال: "ومعلوم أن تعلم العربية وتعليم
العربية فرض على الكفاية, وكان السلف يؤدبون أولادهم على اجتناب اللحن.
فنحن مأمورون أمر إيجاب أو أمر استحباب أن نحفظ القانون العربي, ونصلح
الألسنة المائلة عنه’, فيحفظ لنا طريقة فهم الكتاب والسنة والاقتداء بالعرب
في خطابها ".
وبعد فليس عدلاً أن أحبِّبَ اللغة إلى أهلها
وأصحابها’! أيحبِّبُ أحدٌ ولداً إلى والده؟! أو فلذة كبد إلى صاحبها؟! بل
قل أيحبِّبُ واحدنا اللسان إلى المتكلم وبه قوامه, وعليه يبنى أمره’, وفيه
سرّ مقدرته’, وإليه يعود الفضل في نجاحه, وعليه المعوّل في فلاحه؟!.
لا
كلّ هذا لا يكون’, ولكنها دعوة إلى إعادة الاهتمام بهذا اللسان, إنها دعوة
إلى المصالحة مع اللغة, بعد أن أصابها من الإهمال وقلة الاكتراث ما ينبغي
أن يتوقف عنده كل غيور, بل كل عاقل, لقد أصابها من جحود أهلها وانصرافهم
عنها وافتئاتهم عليها ما جعل أستاذنا الدكتور شكري فيصل رحمه الله يقول’:"
لعله لم يحمل قوم على لغة كان لها فضل وجودهم الحضاري ومكانتهم الإنسانية
على نحو ما حمل ناس منَّا على لغتهم.. اتهموها بالصعوبة وحمّلوها من ذلك ما
هو حقّ في أقلّ الأحايين وما هو باطل في أكثر الأحايين. ورموها بالخروج
على المنطق وأنها لا تنقاد قواعدها إليه. وقذفوا خطّها وحروفها بل دعوا إلى
تبديلها, وبذلوا الكثير من القول والعمل. وأخرجوها من نطاق الطبيعة التي
تنتظم اللغات كلها حين زعموا أنك في اللغات الأخرى تقرأ لتفهم بينما نحن في
العربية نفهم لنقرأ. وقالوا في نحوها وصرفها ما لم يقله مالك في
الخمر!.وتحدثوا عن عجزها عن متابعة التقدم الحضاري وكأنها لم تكن اللغة
التي وسعت حقباً من الدهر العلوم والمعارف كلها… وكأنها لم تكن اللغة التي
أنشأت حضارةً وأنبتت ثقافة وكتبت آلاف الكتب في كل ضروب الصنائع والفنون
والعلوم ".
حصاد الهشيم
ولا ريب أن هذا الجحود وذلك الإهمال
سيؤدي باللغة إلى الضعف والوهن وسيؤدي بأهلها إلى التخلف عن ركب الحضارة
الإنسانية والهوان. ونحن اليوم نجني ثمرات هذا الضعف’, إذ تدرس العلوم في
معظم جامعاتنا العربية ـ إلا ما رحم ربي ـ بغير العربية, الأمر الذي يجعل
بين العرب وبين علوم العصر وحضارته حجاباً حاجزاً وسدًّا منيعاً لا يكاد
يتسرَّب من خلاله إلا اليسير اليسير, ومن قنع بهذا اليسير فإن قصارى أمره
أن يقتات على فتات الآخرين’, ولن تقوم له قائمة في أي مجال من مجالات
العلوم, فاللغة روح المجتمع, ووعاء ثقافته وعلومه, وأداته الأولى للتعبير
عن فكره وحضارته, ولم يسجل التاريخ قط أن أمة حققت التنمية والتقدم الحضاري
بلغة غيرها من الأمم, ولنا في التجربة العربية الإسلامية القديمة
واليابانية الحديثة خير دليل على ذلك. فالعرب المسلمون ما بنوا حضارتهم إلا
بعد أن نقلوا ما خلفته الحضارات البائدة من علوم إلى العربية, ففهموا تلك
العلوم بفكرهم وتمثلوها بلغتهم ووعوها بواعيتهم ليؤسسوا عليها صرح خير
حضارة أخرجت للناس. واليابانيون اليوم كذلك فعلوا فهم يتلقّون علومهم
باليابانية وما يكاد كتاب علمي يخرج في الغرب إلا ويترجم إلى اليابانية قبل
أن يبلغ انتشاره في لغته مداه. والحق أن أمر إهمال اللغة وضعفها لا يتوقف
عند انحلالها وتخلفها وإنما يتعدّى ذلك إلى ضعْف أهلها وتخلفهم, ومن ثم
اضمحلال أمرهم وهوانهم, ورحم الله أديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي
إذ يقول: " ما ذلَّت لغة شعب إلا ذلَّ, ولا انحطَّت إلا كان أمره إلى ذهاب
وإدبار.".
صرخة في واد
ولعل خير ما أختتم به القول هنا تلك
الصرخة المدوية التي نادى بها شاعر النيل حافظ إبراهيم على لسان العربية
يستصرخ أهلها ويستغيث بهم:رجعتُ لنفسي فاتَّهمتُ حصاتي
وناديتُ قومي فاحتَسبتُ حياتي
رموني بعقمٍ في الشبابِ وليتَني
عقمتُ فلم أجزعْ لقولِ عُداتي
وَلدتُ ولمَّا لم أجدْ لعرائسي
رجالاً وأكفاءً وأَدْتُ بناتي
أيهجرني قومي عفا اللهُ عنهمُ
إلى لغةٍ لم تَتَّصلْ برُواةِ
وسِعتُ كتابَ الله لفظاً وغايةً
وما ضقْتُ عن آيٍ بهِ وعِظاتِ
فكيف أضيقُ اليومَ عن وصفِ آلةٍ
وتنسيقِ أسماءٍ لمخترعاتِ
أنا البحرُ في أحشائِهِ الدُّرُّ كامنٌ
فهل سألوا الغوَّاص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسِني
وفيكُمْ وإنْ عزَّ الدواءُ أُساتي
فلا تكِلوني للزَّمانِ فإنَّني
أخافُ عليكم أن تَحينَ وفاتي