بعد ما جلس الخليفة هارون الرشيد وأجرى عدله في الناس، فرغ لراحته، فطلب من حاجبه أن يأتي له بشراب،، فنفذ الحاجب الأمر وجاءهُ بشراب الورد مذوَّبا في العسل، فشرب وانتعش.
وكان البِشر في وجهه، والابتسامة على فمه، والاطمئنان في قلبه والراحة في ضميره،. ثم خرج الى حديقة القصر، ورمق الأزهار الفاتنة حول بركة الماء ترفرف عليها الطيور ثم تحط على الأشجار الظليلة. ثم راح يُحدِّث نفسه قائلاً: "ماأجمل هذه الدنيا، وما أطيب الحياة الآمنة، حيث القلوب صافية مطمئنة! الحق أن السعادة ليست وهماً، حين يكون حول النسان أصدقاء ومحبون ومريدون، وكيفما التفتَّ لا ترى الا وجوهاً مستبشرة وثغوراً مبتسمة".
قال الرشيد هذا لنفسه، ثم طاب له أن يعيد القول على مسمع وزيره الأكبر، وقد اقترب منه مؤانساً متوددا.وأضاف الخليفة على مسمع الوزير "ما أمتع الحياة على أرضنا في هذا الزمن، الحق أنني لا أعرف انساناَ لا تُزين فمه ابتسامة من حولنا، قد يكون ثمة واحدٌ أغنى من الأخر، وقد يكون هناك رجلٌ أفقر من رجل. بيد أن الجميع سعداء راضون بما قَسمَ الله لهم ما دام العدل سائداً، والأمن باسطاً جناحيه على دنيانا".
أجابه كبير وزرائه:
_الحقُّ هو ما قلته يا أمير المؤمنين! ان الحياة ممتعةٌ في هذا البلد الزاهر، ولكل انسان أن يكون مسروراً وعلى فمه ابتسام. غير أني أعرف رجلاً يعيش في جوار هذا القصر يُعرف عند الكل باسم الرجل الذي لا يضحك أبداً _ والحقيقة أنه لا يضحك على الاطلاق.
فلما سمِع الخليفة هذا الكلام أمر على الفور باحضار الرجل، رجاءَ أن يَعلَم ما سبب حزنه، فيُحاول أن يبدِّله بالفرح.
وفي الحال، جيءَ بالرجل الى القصر ومَثَلَ في حضرة الخليفة، فدُهِش الرشيد لمَّا نظر اليه، ورآه حسن المنظر أنيق اللباس، عليه دلائل الغنى، غي رأن وجهه تغشاه سحابة من الكآبة، وعلى فمه وفي عينيه ظلال حزن عميق.
فبعدَ أن سلَّم ووقف ينتظرُ أمر الخليفة، خاطبه هارون الرشيد بلهجة طيبة مُؤانسة قائلاً:
_سمعتُ أيها السيد أنك لا تضحكُ أبداً. فما هو سبب حزنك؟أخبرناعنه، ونحن مستعدون أن نبدله لك بفرح.
أجاب الرجل الكئيب بلهجة مهذبة:
_ لا يخفى على أحد أن أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، صديق صدوقٌ لشعبه. غير أنني لا أعتقد بأنه قادر أن يقيلني من حزني. مع ذلك، فاذا كان يُهم مولاي الخليفة أن يُصغي الى حكايتي، فاني على استعداد أن أحكيها له.
فقال الخليفة:
_إروِ لنا قصتك، لنرى هل ثمَّة علاج لجزنك، أم أنه يقصِّر عنه كل مسعى.
ثم اتكأ الخليفة الصالح على الوسادة واستعد لسماع القصة.
وأخذ الرجل الكئيب يروي قصته قائلا:
كنتُ، يا أمير المؤمنين، الابن الوحيد لرجلٍ وافر الغنى، وقد نشأت على الترف والفراغ، لا أقوم بأي عمل من الأعمال، إلا السعي وراء اللهو والمسرة واللذات من مأكل ومشرب وصيد وما أشبه.
ومات والدي فجأة، فحزنت عليه حزناً شديداً، وقضيت سنة في ثياب الحداد أندبه وأتذكر عطفه وحنانه وسخاء يده.
ثم أخذت جمرة الحزن تخمد شيئاً فشيئاً في قلبي حتى لم يبق لوالدي الا ذكرى، فعدتُ الى ما كنتً عليه من اللهو والعبث وارتياد الملذات مُبذِّراً المال الذي ورثته بغير حساب على جماعة من الأصحاب كانو يفتحون لي سبل الطيش والتبذير. ولم تمضِ سنواتٌ ثلاث على هذه الوتيرة حتى أفلست، ولم يبقَ معي من المال ما أنفق على حاجاتي الضرورية، وقد تبدد من حولي رفاقُ المسرات ولم بنجدني واحد منهم، بل تنكروا لي كأنهم لم يعرفوني في يوم من الأيام.
هكذا، اضطررت، يا مولاي، أن أبحث عن عمل في سوق التجارة يقينيالفاقة والذلة.
وهنا قاطعه الخليفة هارون الرشيد بقوله:
" إذا وجدت عملاً موافقاً لك عندنا، فنحن مُستعدون أن نُسهل لك أمره، لتقضي باقي العمر سعيداً مثل من ترى من الناس حولنا".
قال الرجل الكئيب:
"أرجو من أمير المؤمنين أن يتفضل بالاصغاء الى قصتي لأني لم أذكر حتى الآن الا مُقدمتها، ولم آتِ على وصف أقل ما أصابني من المتاعب".
فأَذِنَ له الخليفة أن يمضي في سرد قصته، وراح الرجل الكئيب يُكمِل ما بدأ:
بدما أنفقتُ كل ما ورثته من مال أبي، ومضيتُ الى سوق المدينة أسألُ الذاهب والآيب عن عمل، اتفق أن مرَّ بي شيخ جليل بدا لي أنه من أهل المكانة والغنى، فوقف يحدِّق الي فترة، ثم خاطبني بقوله:
" يبدو لي من مظهرك أيها الشاب، من وجهك، ويديك ونظراتك، أنك من قوم أشراف أغنياء، وقد نشأت في نعيم الحياة ولم تأت يوما عملا شاقا، أليس الأمر كذلك؟"
"أجبته إن أمري هو كما وصفت يا سيدي، كنت الابن الوحيد لوالد وافر الغنى، أورثني ثروة كبيرة بددتُهاكيفما اتفق، واني نادمٌ على سوء تصرفي، فلو أتيح لي أن أعود غنيا لعرفت كيف أتصرف بمالي...."
فهزَّ الشيخ الجليل رأسه وقال:
"إن حظاً جديداً من الغنى ينتظرُك على أن تعِد بأن تتصرف بحكمة وشرف".
_"من كل قلبي أعد يا سيدي بأن أسلك مسلك الحكمة والشرف". فلما قلت هذا، أخذني صديقي الجديد من يدي، ومضى بي الى منزله. وبعد أن استحممت، جاءني بحلة غنية جديدة فتبدلتُ بها، ودعاني اليه وأوضح لي ما عليَّ من الواجب:
ما عدا الشيخ الذي دعاني الى خدمته، كان ثمة تسعة مثله يعيشون في ذلك المنزل، وكان واجبي أن أكون وكيلاً على ما في المنزل فأشتري كل ما يحتاجون اليه من ضروريات الحياة، وأتدبر أمر الخدم. وقد وضع بين يدي صندوق فيه ثلاثون ألف دينار، لأنفق على المعاش واجرة الخدم.
ثمة شيء واحدٌ كان ممنوعا علي. هو أن أبقى صامتاً ولا أسأل أجداً من الشيخ التسعة عن أمره، ولا أبدي أي تعجب من حزنهم الدائم وبكائهم.
فعاهدت الشيخ على ذلك، وما مضى وقت طويل حتى تعودت المنزل الغريب الأطوار، وصرت كأني فيه ولدت ونشأت وقضيت فترة من شبابي. وراحت السنون تتوالى، فمات شيخ من العشرة، ثم لحق به الثاني فالثالث، فالرابع، وهكذا الى نهاية السلسلة، حتى لم يبقَ من جوقة الحزن والبكاء الا من جاء بي الى المنزل الغريب وأقامني وكيلا عليه. ولما شعرتُ بأن أيامه باتت معدودة، وأن الأجل بات قريباً، وقد لزم فراشه ينتظر ساعته، جلست قُرب سريره وقلت له:
"ترى يا صديقي العزيز أني قُمت بواجبي عندك، فخدمتك أنت وأصحابك التسعة بأمانة وإخلاص، فهل لي أن أسأل مكرمةً تصنعها معي؟"
_سل ما شئت يا بني! فاني مُستعدٌ له. لأنك –بالحقيقة- كنت أميناً مخلصا لي ولأصدقائي على السواء، وانك لجديرٌ بالشكران.
_إذن، قل لي، لمَ كُنتَ أنت وأصدقاؤك تقضون الأيام في النواح والبكاء، ولم تبتسموا مرة واحدة؟
فتنهد الشيخ المحتضر من أعماق قلبه قائلاً:
"آه يا ولدي! لكم تمنيت أن لا تسألني هذا السؤال، فقد يكون جوابي لك بدء تعاستك. فإذا كُنت حقيقة تريد أن تعلم سبب شقائنا، فحاول أن تعثر عليه في فتحك للباب الذي وراء هذه الستارة". وبيده الهزيلة التي شفَّ جلدهاعن عظامها أشار الى الجانب الأخر من المنزل.
لم تمضِ أيامٌ معدودة على موت الرجل العجوز حتى رأيتُني أملك المنزل الكبير وما فيه من الثروة وفاخر الرياش والأثاث، وكنت قد تعودت الحياة الهادئة الوادعة، وهكذا، رحتً في أول الأمر أعيشُ كما عشتُ أخيرأ.
غير أني، لم ألبث بضعة أسابيع على هذه الحال، حتى انبعث في نفسي داعي المغامرة، فرحتُ أفكر في الباب السري. وشرعتُ أتنقل من غرفة الى غرفة باحثاً عنه، حتى اهتديتُ أخيراً، الى باب صغير مخفي وراء ستارة، وكان موضداً بأربعة أقفال.
فتراجعتُ غير راغبٍ في فتح الأقفال. غير أني كنتُ أعود الى الباب يوماً بعد يوم، فأحدِّقُ اليه، عالماً أني سأقدم على فتحه في يوم من الأيام، أقريباً كان هذا اليوم أم بعيداً. وأخيراً، فعلت.
انفتح الباب على رواقٍ طويل، طويل جداً حتَّى، كأن ليس له أخر. فأخذتُ أمشي في مدى الرواق حتى مضت ساعة لم أقف فيها لحظةعن السير، وسرحت النظر فلم أقع على نهايته، فأصابني من ذلك خوفٌ شديدٌ ورحت أعدو راكضاً لعلِّي أُدرك للنفق المديد نهاية. وعدوتُ، وعدوت بكل قوتي حتى جَهِدتُ من التعب ولم تبقَ لي قوة على خطوة واحدة، واذ ذاك وجدتني بغتة خارج الرواق على شاطئ المحيط.
فرُحتُ أحدِّق الى الأمواج مُفكراً، ولم يخطر في بالي يوماً بأن المحيط كان قريباً هكذا.
وبينما كنتُ أسير على الشاطئ الرملي مأخوذاً بالأمواج العظيمةتتواثبُ ثمَّ تترامى على الشاطئ، اذا بنسرِ قشعم يحوم في الجو فوقي. وفي لحظة من الزمن انقضَّ علي، فقبض عليّ بمخالبه، وحلّقَ بي فوق المحيط. مع أنه لم يكن ثمَّة غير فضاءٍ خلاء فوقي وحولي، وغير مياه موَّاجة تحتي، مع كل ذلك، لم أشعر بالخوف، بل كنتُ أراني آمناً في قبضة ذلك الطائر الجبار، أخيراً، ألقى بي النسر على أرض جزيرة، وعاد يحلقُ في الفضاء.
وبينما أنا مأخوذٌ بالتفكير في ما سيحدثُ لي، رأيتُ سفينة تقترب بهدوء تدفعها الرياح نحوي. فلما صارت على كثب بدت لي أشرعتها من نسيج الحرير بألوان مختلفة من قرمزي، وأصفر، وأرجواني، وبنفسجي. ولما تدانت أكثر فأكثر، رأيتُ أ، بحارتها فتيات بارعات الجمال، في حُللِ أميرات، وقد استرسلت شعورهن يلا عبها النسيم.
ثم أُنزل زورق أخذت بعض الفتيات يجذفن فيه مقتربات من الشاطئ. فابتسمن لي، ورحن يُنادينني بنغمة رقيقة، فاستأنستُ بهن ودنوتُ منهن، فأحطن بي وجعلنني بينهن في الزورق حتى انتهين الى السفينة. فلمّا حصلتُ فيها جيء لي بحلَّة جميلة أنيقة، فلبستها، وراحت الفتيات يُقدمن لي الشراب اللذيذ والطعام الطيب، والسفينة سابحة في الماء الساكن. وانقضى النهار ثم الليل، ثم النهار الثاني ونحن على هذه الحال. ولما أذنت الشمس بالغروب، كنا قد اقتربنا الى شاطئ احتشد عليه جمهور كبير من الناس مهللين ومموجين بأياديهم رايات ملونة زاهية.
فأحاقت الفتيات الفاتنات بي من كل جهة، ورحنا جميعاً نتقدم نحو الجمع، ثمّ سمعت الهتافات العالية:
"جاء العريس! أهلا بالعريس!"
وتقدّم حرس من الجنود على جياد مطهمة في أروع لباس، وقد جاءوني بجواد، فامتطيته، متوجهاً الى القصر، وقد وردته أشعة الشمس الغاربة.
وخرجت من القصر الساحر مليكة بارعة الحسن، وتقدّمت الى لقائي، فأخذتْ بيدي. وقادتني الى عرش بجانب عرشها، فنظرت الى نفسي، فحسبتني في حلم من الأحلام.
وخاطبتني الملكة برقة قائلة: " أخيراً، أتيت يا عريسي، كما كان قد كُتِب لي ولك في الغيب! سنعقد زواجنا بدون تأخير، فان مهرجان العرس قد أُعِدَّ من قبل".
فملأت كلماتها قلبي حبورا، اذ ما كدتُ أنظر اليها حتى أحببتها. فلم تكن لي أمنية أعظم من الزواج بها، وقضاء باقي العمر الى جانبها.
وبعد مهرجان الزواج قالت الملكة:"أنت الأن ملكٌ على بلد آمن مزدهر، كل ما أملك هو لك كما هو لي بدون أي تمييز. فأنت قادر أن تأمر أي فرد هنا بأن يؤدي لك أية خدمة أو رغبة، غير أن شيئاً واحداً ممنوعٌ عليك. إياك أن تفتح هذا الباب، فان فعلت جلبت الخراب والتعاسة لنفسك".
وأشارت الى باب صغير في الركن البعيد من القاعة.
قضيتُ سبع سنوات في أطيب ما يعرف الانسان من سعادة على هذه الأرض. لم يُعكر هنائي طول هذه المدّة أقلُّ شيء من الكدر أوالغم. حتى نسيت أن في الحياة أشياء غير الحب والفرح والابتسام.
ثمَّ أنَّه في يوم من الأيام، وقد خرجت الملكة في شأن من شؤون الرعية، اتفق أن مررت بالباب الممنوع، فلم أستطع أن أقاوم ما ثار فيَّ من التعجب من أمر هذا الباب، لِمَ أُنذِرتُ بألا أحاول فتحه. أي خطرٍ على حياتي يكمن وراءه، وأنا قد أصبحت سيداً على هذه البلد؟ لابد أن تكون الملكة قد أرادت أن تُجري عليَّ لعبة لا شأن لها. سأفتح الباب وأريها _وأبرهن لنفسي أيضا_ أني لا أخاف شيئاً.
ودفعتُ بيدي، وأدرتُ المزلاج بجرأة. فانفتح الباب حالاً، وما كدتُ أجتازُ القبَّة حتى انصفق الباب ورائي بشدة. واذا بي أراني للمرة الثانية على شاطئ المحيط، ونسر جبّارٌ يُحلق فوقي، ثمَّ يهبطُ مًصَرصِراً غاضبا فيحملني بمخالبه ويطيرُ بي فوق المحيط. وبعد رحلة قاسية فوق البحر العاصف، ألقى بي في باب الرواق المديد الذي يقود الى داخل منزلي.
وهنا غلب الحزن على الرجل الكئيب، وهو يروي قصته، وتوقف عن الكلام. وكان الخليفة وجلساؤه بنتظرون واجمين. ثم استأنف الرجل كلامه والدموع تترقرق في عينيه.
"وعدتُ أمشي على شاطئ المحيط أربعة أيام أنادي زوجتي الحبيبة، أنادي النسر ليعود فيحملني اليها فلا من يسمع ولا من يجيب. أخيراً، تأكد لي أن لا أمل لي بعد بأن أعود اليها. فمشيتُ متمهلاً الى الرواق فدخلته، ورحتُ أسير فيه حتى بلغت منزلي.
عندئذٍ غرفت سر الشيوخ، وأدركتُ سبب بكائهم، وتأكد لي أني أنا كذلك، سأقضي باقي العمر في الحزن والبكاء".
وعاد الخليفة والحاشية الى صمتهم المكتئب، وقد غمر الرجل وجهه بيديه، وأخذ يصعّد التنهيدات والحسرات.
حينئذ، خرج الخليفة من صمتهِ وقال:
" أيها الرجل التعِس، لقد اتضحَ لي بعد هذه الحكاية أنني لا أقدرعلى شفائك من غمك، ولا قِبَلَ لي بازاحة غمامة الكآبة التي تمسحُ وجهك. مع ذلك، فاني أعتقدُ بأن نصيبك من دنياك ليس شقياً كلَّ الشقاء، فأنت تملكُ مالاً ومنزلاً جميلاً، وثروة من الذكريات، ورغبة فيالبكاء. فلو حاولتُ أن أزيل سبب غمك، لدمرتُ حياتك كلها!"
" عد إذن، الى بيتك، واندب ما طاب لك الندب، أما أنا فلسوف أتذكر أنني لن أكون سخيفاً لأعتقد بأن من الواجب على كل انسان في بلدنا، أن يكون سعيداً إذ تأكد لي الأن، أنَّ في هذه المدينة إنساناً واحداً على الأقل، لا يعرف فمه الابتسام