يعجب بعض الناس بالتفكير المجرد ، خاصة إذا صيغ بعبارات منطقية بارعة ، بل إن هذا التفكير قد يؤدي بهم إلى مايشبه التنويم المغناطيسي ويستحوذ على عقولهم .
وهذا ما برع به بعض الفلاسفة حين يهولون على الناس بعبارات غامضة ملتوية تشعر القارئ أن ( الفكر ) ها هنا ، هؤلاء يوصدون عقولهم عن المعاناة اليومية والواقع الذي يعيشه الناس .
جاء الإسلام ليفتح عصراً جديداً حين ركز على العمل بعد العلم وأن علماً ليس وراءه عمل ليس في مطالب الإسلام ، وليس هو الذي يضفي السعادة على الإنسان ، فالعمل هو الذي يرتقى بالإنسان ، وهو الذي من خلاله يمارس عملية التزكية والتهذيب ، قال تعالى : " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون "
ويؤكد القرآن على هذا الأمر ، فلا يذكر الإيمان إلا ويذكر العمل الصالح قال تعالى : " والذين هم للزكاة فاعلون " أي المبالغة في أدائها والمواظبة عليها حتى تكون صفة لازمة ، فيصير أداء الزكاة فعلاً لهم يعرفون به .
ويوجه القرآن الإنسان لمعرفة الكون كي يحيا فيه , ويستفيد منه ، وقد سخره الله له " أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت .. " .
فقه السلف هذه المعاني على أكمل وجه فوجدوا القرآن يعرف الإيمان بالصفات اللازمة والتي يتكون في مجموعها ، فيقول : " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ، الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ، أولئك هم المؤمنون حقا .. " " قد أفلح المؤمنون .. الآيات "
ثم وجدوه لا يذكر الإيمان في المعارض المختلفة إلا مقروناً بالعمل الصالح ، ففهموا من القرآن ما هو الإيمان ، وما هي الأعمال الصالحة ،.
أما الخلف فعدلوا عن هذا كله منذ صاروا يفهمون الإيمان من القواعد التعليمية وفقدوا الذوق والإسترشاد بالسنة ، وكيف يفلح من يِعدل في تفهم الإيمان في الآيات السابقة إلى قولهم بأن الإيمان هو التصديق وأن النطق شرط ...
تحول الإيمان إلى تعريفات تحفظ وتلفظ ولا تطبق ، ووقع الانفصام الكبير بين القول والعمل ومازال هذا الانفصام يزداد حتى أصيب المسلمون بداء " ا لكلام " الذي أدى إلى هذا التدهور وهذه السطحية في التفكير . وحتى أصبح القول بلا عمل وكأنه الشيء الطبيعي .
يقول الحسن البصري رحمه الله " إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة في الله صدقوا بها وأفضى يقينها إلى قلوبهم ، وما كانوا بأهل جدل ولا باطل ، فنعتهم الله أحسن نعت " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ... " .
يظن بعض الناس أن الخلل هو في قلة المعرفة وقلة العلم فهذا وإن كان مهماً . ولكن الخلل الأكبر يكمن في ضعف الفعل الأخلاقي ضعف السلوك المنسجم مع الفطرة ومع أوامر الله سبحانه وتعالى .
فالمعرفة لا تستحق أن تكون ذات شأن إذا لم تؤد إلى فعل هو لمصلحة الإنسان في الدنيا والآخرة .
إن جمهور الناس يرغبون في رؤية علماء ودعاة يطبقون الإسلام في سلوكهم اليومي ، يريدون يداً عادلة بين هذا الركام في الجور والفساد ، يداً حانية وحديثاً من القلب , يريدون رؤية العالم أو الداعية البعيد عن الترف وعن السعي الدائب للشهرة والظهور ، وإنما همه الدائم هو نفع الناس فلا يقود الحشود إلا من سار خلف الصفوف .
لماذا لا نتعلم من حديث " ما ذئبان جائعان " ولماذا لا يكون هذا الحديث منارة تهدي الدعاة حتى لا يسقطوا في مهاوي حب الشهرة أو التمتع بلذائذ الدنيا ، فإنه لا جريمة أبشع من الطمع والجشع .
العمل الحقيقي هو مشاركة الأمة في معاناتها والتحديات التي تواجهها ، وليس نشر العظات والنصائح في المؤتمرات والفنادق الفخمة .