وقد كان لانتشار نبأ اعتقال عمر المختار صدى عميقاً بين فرق القوات العسكرية الإيطالية والمواطنين في البلاد ، وقد وجد غراتسياني أن تلك فرصة ثمينة لا يجب التفريط فيها ، فقام باستغلالها إعلاميا من أجل تدمير أسطورة البطل عمر المختار ، كذلك من أجل إخماد استمرارية المقاومة نفسيا سيكولوجيا لدى المجاهدين الليبيين وكذلك في نفوس بقية المواطنين العرب حيث أخذ يلوح بالدرس القاسي الذي لحق بعمر المختار على حد قوله بسبب عناده وعدم استسلامه لسلطة الحكومة الإيطالية . وقد تحدد مصير عمر المختار يوم 15/9/1931 في صالون بالاس ليتوريا بمدينة بنغازي ، حيث تم إجراء محاكمة صورية له تم فيها الحكم عليه بالإعدام شنقاً حتى الموت وفي صباح يوم 16/9/1931 كما يورد غراتسياني في كتابه " برقة المهدأة " بقوله : عند الساعة التاسعة صباحا بالضبط من يوم 16/9/1931 وبحضور جميع أعيان القبائل البرقاوية في المعسكرات القريبة من بنغازي تم تنفيذ حكم الإعدام شنقاً في عمر المختار زعيم الثوار المتمردين .
" إنا لله وإنا إليه راجعون " هذا ما ردده عمر المختار عندما وقف على منصة المشنقة ، ولكن نجد أنه في الحقيقة وقبل تنفيذ حكم الإعدام فيه ، قد قال بازدراء ومن دون مبالاة للجنود الطليان المحيطين به : " هكذا أنتم أيها التعساء .. ليس لديكم على الأقل رصاصتين تقتلوني بهما " . هذا هو نص العبارة التي رواها ليفي Livio الذي كان يعتبر شاهد عيان على الحرب الليبية والذي تم بواسطته كشف غموض شخصية متصرف الجبل أغسطس مالاكريا ، كما أنه ساعد برواياته أن يسد ثغرة الساعات الأخيرة من حياة عمر المختار التي قضاها في معتقل بسوسة تحت الحراسة المشددة .
ولقد كان من أهم واجبات متصرف الجبل مالاكريا المكلف بها هي إخضاع سكان منطقة الجبل بالقوة ، لذلك أصبح من واجبات فرقة الصوراي غير النظامية والتي كانت تتكون من أهالي البلاد والتي كانت تعتبر رهن إشارة متصرف الجبل حماية القبائل في تلك المناطق من غارات رفاق عمر المختار الذين كانوا يقومون بتلك الغارات المتكررة على نجوع القبائل من أجل الحصول على الماشية والتموين اللازم بعد قيام غراتسياني بإغلاق الحدود الليبية المصرية بالأسلاك الشائكة لمسافة 270 كم ، من أجل منع وصول التموين للمجاهدين والذين كان يصلهم عن طريق الحدود المصرية وعندما تم إلقاء القبض على عمر المختار سارع متصرف الجبل للتعرف على هوية الأسير ، لذلك فعندما فرغ من التأكد من شخصية عمر المختار قام بإيداعه لدى السجان ليفي Livio مساء يوم 11/9/1931 في سوسة وأشار إليه محذرا وهو يرفع سبابته في وجهه نحو عمر المختار قائلاً : "هل ترى هذا المتمرد .. احرص لا تدعه يهرب منك .. لأني سوف أقتله " . وقد حاول المجاهدون من أتباع عمر المختار الإفراج عن زعيمهم بعدما علموا بوقوعه في الأسر بواسطة القوات الإيطالية .. وذلك بعد انتظار له لم يدم طويلاً . ويصف شاهد العيان ليفي ، عمر المختار قائلا : "كان شيخاً متوسط الطول عنيدا عيناه تشعان ببريق الدهاء والحيلة ، ويبدو منظره كطائر جارح بسبب التقوس الذي يبدو في ظهره ، بالإضافة إلى عمق التقاطيع التي تمتد من أعلى جبهته لتستمر فوق حاجبيه ثم تنحدر إلى أسفل حيث تتقاطع عند فمه ثم تتوارى عند ذقنه تحت لحيته البيضاء القصيرة ، أما لون بشرته فإنه كان يميل إلى اللون الأسمر . ويستطيع المرء أن يدرك مدى ما يتميز به عمر المختار من سمو وطموح بالإضافة إلى عزة النفس عن قرب ، حيث أن تلك الصفات جميعا لا تنفي مدى ما يتصف به من نبل ووجاهة " .
وقد نظر عمر المختار إلى سجانه قائلا : هل تعرفني ؟ فأجاب ليفي بقوله " كلا لم أعرفك أبدا " ولكن عمر بادره بهدوء " إني قد رأيتك عدة مرات ، فأنت معروف بين الأهالي بارتدائك الزي الوطني العربي ، كما أنك تعتبر أشهر وأسرع قناص في إطلاق النار ، أنا أعرف ذلك فالحرب هي التي جعلت منا أعداء . إن رجالي يعرفونك جيداً حيث يلقبونك باسم " الشيطان " فأنت الذي كنت تحرس بنات القبيلة عندما كن يقمن بزيارة سيدي عبد الواحد .. أتذكر رجالي عندما قاموا بمهاجمتك عند وادي الكوف .. لقد نجوت بأعجوبة من وابل الرصاص عندما اضطررت إلى تغيير الحصان الذي كنت تمتطيه والذي كان قد أصيب بطلقات الرصاص لثالث مرة .. فلنقل إن الله قد نجاك .. بعد توقف إطلاق النار .. هذا كل ما حدث وأنا الآن أعتبر نفسي سجينك " . وعندما توقف عمر المختار عن الكلام ، بادره ليفي بقوله : " سوف أعقد معك معاهدة سلام إلى غد .. فأنت لست سجيني فقط ، بل أيضاً ضيفي في اليوم الأول ، حيث يعتبر الضيف عندكم في ذلك اليوم ابن الله " ثم يستمر ليفي في روايته أن عمر المختار قد التفت إليه مجيبا إياه بقوله : "السلام عليك " حيث رد عليه ليفي وهو يتركه لوحده قائلا " وعليك السلام إلى غد " .
ويستمر السجان في روايته لكاتب المقالة السنيور باولو باقانيني بقوله " وعندما تركت عمر المختار وحده ، ذهبت لإعداد الطعام له ، والذي كان يتكون من طهي دجاجة له ، وعندما قدمت له الطعام ، اعتدل عمر في جلسته ولم تمر إلا ثوان وقد التهم الدجاجة حيث لم يترك منها إلا العظام بعد أن خرطها من اللحم بواسطة أسنانه الناصعة البياض .. وعندما شعر بنظراتي تتجه إليه التفت إلي قائلا " إن اللحم يعتبر غذاء رئيسيا لي ؛ لأنه يمنحني القوة .. " وبعد أن فرغ من التهام الطعام جلس وأخذ ينظر إلي بينما بادرته قائلا " أريد أن أسألك الآن " وبعد أن رد بالإيجاب وهو يعتدل في جلسته قلت له متسائلا : كيف استطعت أنت ورفاقك البقاء على قيد الحياة طويلا دون حماية وتموينات ؟ أجابني وهو يهز رأسه قائلا : نحن البدو مثل عصافير السماء التي تجد ما تأكله في المكان الذي يخيل إليك أنه يخلو من الطعام .. وبعد أن تركت عمر يسرح في خياله ، نهض من مكانه وهو يزمجر غاضباً كالأسد متأثراً بما حصل له .. بينما أخذ يتفوه ببعض العبارات يرددها قائلا " الكلب الكلب .. حتى عمر غدر به .. حتى عمر كان له يهوذا " وعندما هدأ غضبه اقتربت منه حيث جلس وأخذ يروي كيف وقع من على حصانه الذي أصيب بجراح ، ثم كيف حاول الاختباء تحت الشجيرات القريبة منه ، ولكن أحد فرسان الصواري والذي كان من العرب استطاع اكتشاف عمر المختار وهو مختبئ تحت الشجيرة . ( يصمت عمر قليلا .. ثم يضيف بحدة وغضب : إن العربي الذي اكتشفني تحت الشجيرة يعتبر أخي .. لم يسكت بل بدأ يصرخ عندما عرفني بأعلى صوته باسمي كاملا .. وهو يردد عمر .. عمر المختار ، فلو أن ذلك الكلب الخائن لم يتفوه بكلمة واحدة عني فلربما تم نقلي مع بقية الأسرى كشخص عادي ، فلا أحد يعلم فيما بعد فلربما أستطيع الهرب بمساعدة أحد رفاقي .
وطوال تلك الليلة التي قضاها عمر في سوسة ، والتي لم يعرف أبدا بأنه سوف ينقل بواسطة البحر إلى بنغازي صباحا ، أخذ يروي شتى القصص على مسامعي ، بينما كان بين الحين والآخر يتململ وهو يتأوه قائلا ّ مكتوب .. مكتوب فالذي قد سطر فلا مفر منه .. فحياة الإنسان كالسبحة تتساقط حباتها متتالية مثل توارد الأفكار على الإنسان نفسه .. فمرة يشعر بالسعادة وأخرى بالحزن .. وهكذا إلى النهاية .. فمرة حظ سعيد وأخرى حظ سيء تعس .. فالمكتوب هو المكتوب لن يتغير أبدا . وبعد أن توقف عن الكلام حدجني بنظرة وهو يقول : أنت شاب محارب مخلص .. فأنا مسرور جدا لأكون سجينك .. هذا بالإضافة إلى أنك متزوج من فتاة مسلمة عربية من قومنا .. ولكن المسلمة لا تتزوج من مسيحي ، فقاطعته قائلا : إن الفتاة العربية التي من قومك قد تزوجت من رجل طيب وأمين . ثم بسطت له يدي مصافحا
ثم يستمر ليفي سجان الشهيد في سرد حكاياته عن الساعات الأخيرة في حياة البطل عمر المختار حيث يصف شخصية البطل المسلم المؤمن بالقضاء والقدر بقوله " وفي الحقيقة كان عمر رجلا يصلي لله منذ انبلاج الصبح إلى غروب الشمس مع نهاية كل يوم ، رجلا يصلي لله ليلا بدلا من أن يتمشى .. رجلا يصلي لله من أجل أسرته وماشيته ثم الطريق الذي سوف يسلكه .. رجلا يصلي لله من أجل حماية حياة المسلمين جميعا ومن أجل مواصلة الكفاح العادل المقدس الذي أمر به الله سبحانه وتعالى .. الله أكبر .. الله أكبر .. ألقى عمر المختار نظرة إلى الخارج .. إن بزوغ الصبح لقريب هكذا قال وهو يتململ في مكانه ثم أضاف قائلا : " إن بزوغ النهار يكون طريا منعشا مثل صوت شابة تغني على البئر .. ثم يكون توالي النهار فيما بعد باعثا على السأم والملل مثل سير خطوات الجمل البطيئة .. أو حارق مثل حدوة الحصان الذي يركض مسرعا .. وأخيرا يأتي المساء وهو مثل لون الرماد .. إن الحياة مثل تعاقب النهار .. شعارها فعل وإرادة يكونان معا شيئا مهما في حياة الإنسان ، ثم يتدخل القدر فيما بعد ليدل على مصير حياة الإنسان .. إن حتمية النهاية أو المكتوب "المقدر" بالنسبة للإنسان تأتي تلقائيا مثل نافورة مياه أو مسجد في الصحراء عندما تصل إليهما تجد نفسك تعبان وبالتالي غير قادر على مواصلة السير .. فتبقى تنتظر بجوارهما حلول المساء أو بمعنى آخر النهاية أو المصير ، فأنت كما ترى أن حياتي قد رسمت مسيرتها منذ الولادة حتى النهاية ، فحياتي ليست مثل حياة أولئك الشبان تبدأ مع شهر رمضان ولكنها كانت قد بدأت قبل ذلك ، فأنا ولدت لأقود الآخرين ولأفهم ما جاء به القرآن الكريم من معان .. بينما البعض الآخر يكتفي بتعلم قراءته فقط . ثم قام عمر بخلع جرده عن كتفه ، وبينما انهمك ليفترشه فوق حصيرة الديس استعدادا للنوم خرجت أنا – ليفي – لأقوم بالدورية الليلية المعتادة ممتطيا صهوة حصاني وذلك للتأكد من أن كل شيء يدور حول المعسكر على ما يرام ، وما إن رجعت إلى عمر بعد أن تأكدت من الهدوء الذي كان يحيط بالمعسكر حتى وجدته مستغرقا في النوم ، بينما لا زال رفاقه لم يعرفوا بعد المكان الذي كان يعتقد أن المختار لم يقبض عليه ، بل تائه لم يستطع الوصول إليهم بسبب الجروح التي أصيب بها يجري مهرولا في الجبل مناديا بيأس : ياباتي .. ياباتي .. بينما كانت أسرته تشعر بالقلق عليه لعدم عودته مع رفاقه كالعادة .
" وفي الفجر عندما سمع عمر المؤذن ينادي المسلمين لأداء الصلاة بقوله : الله أكبر .. الله أكبر .. . قام عمر من نومه وتوجه نحو القبلة بمكة وأدى الصلاة كبقية المسلمين . وفي الحقيقة وجدت نفسي (ليفي) معجبا بفلسفته في الحياة .. فهو يشعر في وجدانه بأنه محارب قد هزم ولكنه مع ذلك لم يفقد الهدوء وعزة النفس والوقار التي كانت تتميز بها شخصيته .
وعند تمام الساعة السادسة صباحا قمت بمرافقته إلى الطراد الحربي أورسيني حيث تم التسليم والاستلام مع الجنود الذين اقتادوه إلى داخل الطراد الحربي بينما كان يلقي علي تحية الوداع .. وعندما عدت إلى المعسكر ، كنت أفكر في عمر المختار بينما كنت أهمس إلى نفسي في هدوء .. لربما أراه وربما لن أراه ، أحقا أن الموتى لا يرجعون ؟ وما إن وصلت إلى المعسكر حتى قلت لنفسي .. يموت عمر .. لا مفر من ذلك . أما أن يقاسي إهانة الشنق كأي مجرم عادي أو أي شرير جاحد لله .. فهذا ما يعتبره المسلمون إهانة .. حيث يعتقدون أن حبل المشنقة عندما يلتف حول الرقبة لا يسمح بخروج الروح من الحلق .. وهكذا كما يعتقدون أن روح عمر سوف لن تستطيع الرجوع إلى الخالق !! .
يتــــــــــــــــــــ،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،ــــــــــــــــــــــبع