وبهذا ننتقل الى الملك الثالث وهو سيدنا
( سليمان عليه السلام )
سليمان عليه السلام
قبل البدء في قصة سليمان لابد من ذكر قصة والده داوود عليهما السلام جميعاً.
يذكر الله عز وجل قصة بني اسرائيل في سورة البقرة (الم ترى إلى الملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين)
لما شعر بنو إسرائيل بحالهم المتردي طلب الملأ منهم من نبي لهم (يقال ان اسمه صموئيل) أن يبعث عليهم ملكاً يقاتلون تحت رايته في سبيل الله، ولكن نبيهم الذي يعرف طباعهم قال لهم {هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا....الآية ...وأخبرهم نبيهم أن الله قد بعث عليهم طالوت ملكاً فاعترضوا بأنهم أحق بالملك منه وأنه {لم يؤت سعة من المال}، فقال لهم نبيهم إن الله اصطفاه عليهم وزاده بسطة في العلم والجسم .
وتولى القائد المؤمن طالوت الملك على بني إسرائيل، وكان ذلك حوالي سنة 1025ق.م، وتسميه الروايات الإسرائيلية "شاؤول" وتساقط أتباعه في الاختبار عندما ابتلاهم الله بنهر الأردن ومنعهم من الشرب منه {إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم}، ثم تساقط الكثير من القليل الذي بقي في الاختبار التالي عندما رأوا جالوت وجنوده فقالوا {لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده}، ولم تثبت في النهاية إلا ثلة قليلة مؤمنة أعطاها الله سبحانه النصر وقتل داود عليه السلام – وكان فتى – في هذه المعركة جالوت بالمقلاع .
وينفتح فصل جديد في تاريخ بين إسرائيل وفي انتشار وسيطرة دعوة التوحيد على الأرض المباركة وذلك بتولي داود عليه السلام الملك بعد طالوت سنة 1004 ق.م، ويعتبر داود عليه السلام المؤسس الحقيقي لمملكة بني إسرائيل في فلسطين، فقد قضى اليهود الفترة التي سبقت داود دون أن يملكوا سوى سلطان ضئيل في أجزاء محدودة من فلسطين ودون أن يستطيعوا أن يكونوا سادتها، ومضى جميع عصر القضاة في القتال الجزئي بجماعات صغيرة وذلك بأن تدافع كل جماعة (قبيلة) بمشقة عن قطعة الأرض التي استولت عليها .
ولد داود عليه السلام في بيت لحم، واستمر حكمه أربعين عاماً تقريباً (1004-963 ق.م) وكانت عاصمة حكمه في البداية مدينة "الخليل" حيث مكث فيها سبع سنوات، ثم إنه فتح القدس حوالي سنة 995 ق.م فنقل عاصمته إليها. وواصل حربه ضد الأقوام الكافرة في الأرض المقدسة حتى تمكن من إخضاعهم سنة 990 ق.م تقريباً، وأجبر دمشق على دفع الخراج ، وهكذا سيطر أتباع التوحيد – في ذلك الزمان – لأول مرة – فيما نعلم – على معظم أنحاء فلسطين، غير أن حدود مملكة داود عليه السلام في أغلب الظن لم تلامس البحر إلا من مكان قريب من يويا (يافا)، ويبدو أن حدود المملكة الإسرائيلية في أوجها كانت مئة وعشرين ميلاً في أطول أطوالا وستين ميلاً في أعرض عرضها وأقل من ذلك بكثير في أغلب الأحيان، أي أن مساحتها لم تزد عن 7200 ميل مربع أي حوالي 20 ألف كم2، وهذا أقل من مساحة فلسطين الحالية بحوالي سبعة آلاف كم2. لقد سيطر اليهود على المناطق المرتفعة لكنهم أخفقوا في السيطرة على السهول وخصوصاً أجزاء كبيرة من الساحل الفلسطيني، وهي أجزاء لم تتم لدولتهم السيطرة عليها إطلاقاً طوال قيامها
وقد آتى الله داوود عليه السلام ملكاً عظيماً وألان له الحديد فكان بين يديه كالشمع أو كالعجين يشكله كيف شاء دون حاجة لصهره في النار وهذه معجزة ، وكان داود رغم ما أوتي من ملك يعمل بالحدادة ولا يأكل إلا من عمل يده، وقد طور داود صناعة الدروع في زمانه فبعد أن كان الدرع صفيحة واحدة تثقل حاملها وتعيق حركته هداه الله إلى أن تكن حلقاً متداخلة تسهل الحركة لا تنفذ منها السهام. . . {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم، فهل أنتم شاكرون}، وقوله تعالى {ولقد أتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد، أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير}.
وفي عام 973 ق.م توفي داوود عليه السلام وتولى الملك من بعده ابنه سليمان عليه السلام وفي رواية 963 يقول تعالى ( وورث سليمان داوود)
ورث سليمان عليه السلام أباه داود في العلم والحكم والنبوة، وتشير الروايات إلى أن سليمان كان واحداً من 19 أبناً لداود، وأن سليمان ولد في القدس، وأن حكمه في الأرض المباركة استمر حوالي أربعين عاماً (963-923ق.م) . وقيل (973 – 933 ق.م)..
وقام سليمان بتوطيد علاقات الصداقة مع ملك مصر وملك صور، وشرع في بناء الهيكل لعبادة الإله الواحد في السنة الرابعة لجلوسه على العرش، واستغرق بناؤه 7 سنوات أي أنه تم حوالي سنة 962 ق. م. وكان الهيكل بناءً صغيراً مساحته 300 متر مربع، وبطول 100 قدم وعرض 35 قدماً، وأشرف على بنائه فنيون من مصر ومن صور، وحينما احتل نبوخذ نصر حاكم بابل القدس دمر الهيكل وأزاله سنة 586 ق. م. كما أسر صدقيا ملك اليهود وأرسله إلى بابل ومعه 50 ألف أسير."
أي أنه من الراجح حسب آراء العديد من المفكرين أن الهيكل قد شرع سليمان عليه السلام في بنائه بعد أن بدأ فعلاً في استكمال المسجد الأقصى الذي شرع فيه وحدد موقعه والده داوود عليه السلام- وهذه الرواية تنافي ما يدعيه اليهود من أن هيكل سليمان مبني تحت المسجد!!! فهل من المنطقي أن يشيد بناءين مختلفين في نفس الرقعة الأرضية ؟؟؟!!!!
ورد في الهدي النبوي الكريم أن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه عز وجل ثلاثا، فأعطاه الله اثنتين ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله حكما يصادف حكمه –أي أحكاما عادلة كأحكام الله تعالى- فأعطاه إياه، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه، وأسأل الله أن تكون لنا.
وقد تفننت التوراة في وصف الهيكل.. وهذا بعض ما ورد في التوراة عنه:
كان هيكل سليمان في أورشليم هو مركز العبادة اليهودية، ورمز تاريخ اليهود، وموضع فخارهم وزهوهم.. وقد شيده الملك سليمان وأنفق ببذخ عظيم على بنائه وزخرفته.. حتى لقد احتاج في ذلك إلى أكثر من 180 ألف عامل (سفر الملوك الأول).. وقد أتى له سليمان بالذهب من ترشيش، وبالخشب من لبنان، وبالأحجار الكريمة من اليمن، ثم بعد سبع سنوات من العمل المتواصل تكامل بناء الهيكل، فكان آية من آيات الدنيا في ذلك الزمان.
وامتدت يد الخراب إلى الهيكل مرات عديدة، إذ كان هدفا دائما للغزاة والطامعين ينهبون ما به من كنوز، ثم يشيعون فيه الدمار، (سفر الملوك الثاني).. ثم قام أحد الملوك بتجديد بنائه تحببا في اليهود.. فاستغرق بناء الهيكل هذه المرة 46 سنة، أصبح بعدها صرحا ضخما تحيط به ثلاثة أسوار هائلة.. وكان مكونا من ساحتين كبيرتين: إحداهما خارجية والأخرى داخلية، وكانت تحيط بالساحة الداخلية أروقة شامخة تقوم على أعمدة مزدوجة من الرخام، وتغطيها سقوف من خشب الأرز الثمين. وكانت الأروقة القائمة في الجهة الجنوبية من الهيكل ترتكز على 162 عمودا، كل منها من الضخامة بحيث لا يمكن لأقل من ثلاثة رجال متشابكي الأذرع أن يحيطوا بدائرته.. وكان للساحة الخارجية من الهيكل تسع بوابات ضخمة مغطاة بالذهب.. وبوابة عاشرة مصبوبة كلها على الرغم من حجمها الهائل من نحاس كونثوس. وقد تدلت فوق تلك البوابات كلها زخارف على شكل عناقيد العنب الكبيرة المصنوعة من الذهب الخالص، وقد استمرت هدايا الملوك للهيكل حتى آخر زمانه (سفر الملوك الأول)، فكان يزخر بالكنوز التي لا تقدر بثمن..
ملك سليمان:
وهب الله سبحانه سليمان ملكاً لا يحصل لأحد بعده فقد سخر الله له الجن لخدمته كما سخر له الريح تجري بأمره، واشتهر سليمان بحكمته وعدله وقوة سلطانه، كما علمه الله لغة الطير والحيوانات .
لقد كان ملك سليمان بحد ذاته معجزة ربانية أعطاها الله له دلالة على نبوته، وقد نعمت فلسطين بهذا الحكم الإيماني المعجزة الذي تدعمه قوى الجن والإنس والطير والريح، وكرم الله سليمان بمعجزة إسالة النحاس له حتى كان يجري كأنه عين ماء متدفقة من الأرض، وشهدت مملكة سليمان حركة بناء وعمران ضخمة، كما امتد نفوذه ليصل مملكة سبأ في اليمن .
ولقد ورد ذكر سليمان مرات عديدة في القرآن الكريم مشيراً إلى عمله وملكه ونبوته، قال تعالى محدثاً عن سليمان {قال رب اغفر لي وهب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب، فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، هذا عطاؤنا فامنن أو امسك بغير حساب، وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب} .
قال تعالى {وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين، وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون}، وقال تعالى {ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير، يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكراً وقليل من عبادي الشكور}، وقال تعالى {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين، ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك وكنا لهم حافظين}.
حكمته:
ويذكر لنا القرآن الكريم مواقف عدة، تتجلى لنا فيها حكمة سليمان –عليه السلام- ومقدرته الفائقة على استنتاج الحكم الصحيح في القضايا المعروضة عليه. ومن هذه القصص ما حدث في زمن داود –عليه السلام- قال تعالى:
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا
جلس داود كعادته يوما يحكم بين الناس في مشكلاتهم.. وجاءه رجل صاحب حقل ومعه رجل آخر..
وقال له صاحب الحقل: سيدي النبي.. إن غنم هذا الرجل نزلت حقلي أثناء الليل، وأكلت كل عناقيد العنب التي كانت فيه.. وقد جئت إليك لتحكم لي بالتعويض..
قال داود لصاحب الغنم: هل صحيح أن غنمك أكلت حقل هذا الرجل؟
قال صاحب الغنم: نعم يا سيدي..
قال داود: لقد حكمت بأن تعطيه غنمك بدلا من الحقل الذي أكلته.
قال سليمان.. وكان الله قد علمه حكمة تضاف إلى ما ورث من والده: عندي حكم آخر يا أبي..
قال داود: قله يا سليمان..
قال سليمان: أحكم بأن يأخذ صاحب الغنم حقل هذا الرجل الذي أكلته الغنم.. ويصلحه له ويزرعه حتى تنمو أشجار العنب، وأحكم لصاحب الحقل أن يأخذ الغنم ليستفيد من صوفها ولبنها ويأكل منه، فإذا كبرت عناقيد الغنم وعاد الحقل سليما كما كان أخذ صاحب الحقل حقله وأعطى صاحب الغنم غنمه..
قال داود: هذا حكم عظيم يا سليمان.. الحمد لله الذي وهبك الحكمة.
ومنها ما جاء في الحديث الصحيح: حَدَّثَنِى زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنِى شَبَابَةُ حَدَّثَنِى وَرْقَاءُ عَنْ أَبِى الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ « بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا . فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ . وَقَالَتِ الأُخْرَى إِنَّما ذَهَبَ بِابْنِكِ . فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ ائْتُونِى بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا . فَقَالَتِ الصُّغْرَى لاَ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا . فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى ». قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ قَطُّ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ مَا كُنَّا نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةَ.
سليمان والخيل:
كان سليمان –عليه السلام- يحب الخيل كثيرا، خصوصا ما يسمى (بالصافنات)، وهي من أجود أنواع الخيول وأسرعها. وفي يوم من الأيام، بدأ استعراض هذه الخيول أمام سليمان عصرا، وتذكر بعد الروايات أن عددها كان أكثر من عشرين ألف جواد، فأخذ ينظر إليها ويتأمل فيها، فطال الاستعراض، فشغله عن ورده اليومي في ذكر الله تعالى، حتى غابت الشمس، فانتبه، وأنب نفسه لأن حبه لهذه الخيول شغله عن ذكر ربه حتى غابت الشمس، فأمر بإرجاع الخيول له (فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ). وجاءت هنا روايتان كلاهما قوي. رواية تقول أنه أخذ السيف وبدأ بضربها على رقابها وأرجلها، حتى لا ينشغل بها عن ذكر الله. ورواية أخرى تقول أنه كان يمسح عليها ويستغفر الله عز وجل، فكان يمسحها ليرى السقيم منها من الصحيح لأنه كان يعدّها للجهاد في سبيل الله.
سليمان والنملة:
ويذكر لنا القرآن الكريم قصة عجيبة:
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَـتَّى إِذا أتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) (النمل)
يقول العلماء "ما أعقلها من نملة وما أفصحها". (يَا) نادت، (أَيُّهَا) نبّهت، (ادْخُلُوا) أمرت، (لَا يَحْطِمَنَّكُمْ) نهت، (سُلَيْمَانُ) خصّت، (وَجُنُودُهُ) عمّت، (وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) اعتذرت. سمع سليمان كلام النملة فتبسم ضاحكا من قولها.. ما الذي تتصوره هذه النملة! رغم كل عظمته وجيشه فإنه رحيم بالنمل.. يسمع همسه وينظر دائما أمامه ولا يمكن أبدا أن يدوسه.. وكان سليمان يشكر الله أن منحه هذه النعمة.. نعمة الرحمة ونعمة الحنو والشفقة والرفق..
سليمان عليه السلام وبلقيس ملكة سبأ:
ولعل أشهر قصة عن سليمان –عليه السلام- هي قصته مع بلقيس ملكة سبأ.
جاء يوم.. وأصدر سليمان أمره لجيشه أن يستعد.. بعدها، خرج سليمان يتفقد الجيش، ويستعرضه ويفتش عليه.. فاكتشف غياب الهدهد وتخلفه عن الوقوف مع الجيش، فغضب وقرر تعذيبه أو قتله، إلا إن كان لديه عذر قوي منعه من القدوم.
فجاء الهدهد ووقف على مسافة غير بعيدة عن سليمان –عليه السلام- (سورة النمل) (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) وانظروا كيف يخاطب هذا الهدهد أعظم ملك في الأرض، بلا إحساس بالذل أو المهانة، ليس كما يفعل ملوك اليوم لا يتكلم معهم أحد إلا ويجب أن تكون علامات الذل ظاهرة عليه. فقال الهدهد أن أعلم منك بقضية معينة، فجئت بأخبار أكيدة من مدينة سبأ باليمن. (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً) بلقيس (تَمْلِكُهُمْ) تحكمهم (وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ) أعطاها الله قوة وملكا عظيمين ***ّر لها أشياء كثيرة (وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) وكرسي الحكم ضخم جدا ومرصّع بالجواهر (وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ) وهم يعبدون الشمس (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ) أضلهم الشيطان (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) يسجدون للشمس ويتركون الله سبحانه وتعالى (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وذكر العرش هنا لأنه ذكر عرش بلقيس من قبل، فحتى لا يغترّ إنسان بعرشها ذكر عرش الله سبحانه وتعالى.
فتعجب سليمان من كلام الهدهد، فلم يكن شائعا أن تحكم المرأة البلاد، وتعجب من أن قوما لديهم كل شيء ويسجدون للشمس، وتعجب من عرشها العظيم، فلم يصدق الهدهد ولم يكذبه إنما (قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) وهذا منتهى العدل والحكمة. ثم كتب كتابا وأعطاه للهدهد وقال له: (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) ألق الكتاب عليهم وقف في مكان بعيد يحث تستطيع سماع ردهم على الكتاب.
يختصر السياق القرآني في سورة النمل ما كان من أمر ذهاب الهدهد وتسليمه الرسالة، وينتقل مباشرة إلى الملكة، وسط مجلس المستشارين، وهي تقرأ على رؤساء قومها ووزرائها رسالة سليمان..
قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) (النمل)
هذا هو نص خطاب الملك سليمان لملكة سبأ..
إنه يأمر في خطابه أن يأتوه مسلمين.. هكذا مباشرة.. إنه يتجاوز أمر عبادتهم للشمس.. ولا يناقشهم في فساد عقيدتهم.. ولا يحاول إقناعهم بشيء.. إنما يأمر فحسب.. أليس مؤيدا بقوة تسند الحق الذي يؤمن به..؟ لا عليه إذن أن يأمرهم بالتسليم..
كان هذا كله واضحا من لهجة الخطاب القصيرة المتعالية المهذبة في نفس الوقت..
طرحت الملكة على رؤساء قومها الرسالة.. وكانت عاقلة تشاورهم في جميع الأمور: (قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ).
كان رد فعل الملأ وهم رؤساء قومها التحدي.. أثارت الرسالة بلهجتها المتعالية المهذبة غرور القوم، وإحساسهم بالقوة. أدركوا أن هناك من يتحداهم ويلوح لهم بالحرب والهزيمة ويطالبهم بقبول شروطه قبل وقوع الحرب والهزيمة (قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ).
أراد رؤساء قومها أن يقولوا: نحن على استعداد للحرب.. ويبدو أن الملكة كانت أكثر حكمة من رؤساء قومها.. فإن رسالة سليمان أثارت تفكيرها أكثر مما استنفرتها للحرب..
فكرت الملكة طويلا في رسالة سليمان.. كان اسمه مجهولا لديها، لم تسمع به من قبل، وبالتالي كانت تجهل كل شيء عن قوته، ربما يكون قويا إلى الحد الذي يستطيع فيه غزو مملكتها وهزيمتها.
ونظرت الملكة حولها فرأت تقدم شعبها وثراءه، وخشيت على هذا الثراء والتقدم من الغزو.. ورجحت الحكمة في نفسها على التهور، وقررت أن تلجأ إلى اللين، وترسل إليه بهدية.. وقدرت في نفسها أنه ربما يكون طامعا قد سمع عن ثراء المملكة، فحدثت نفسها بأن تهادنه وتشتري السلام منه بهدية.. قدرت في نفسها أيضا إن إرسالها بهدية إليه، سيمكن رسلها الذين يحملون الهدية من دخول مملكته، وإذا سيكون رسلها عيونا في مملكته.. يرجعون بأخبار قومه وجيشه، وفي ضوء هذه المعلومات، سيكون تقدير موقفها الحقيقي منه ممكنا..
أخفت الملكة ما يدور في نفسها، وحدثت رؤساء قومها بأنها ترى استكشاف نيات الملك سليمان، عن طريق إرسال هدية إليه، انتصرت الملكة للرأي الذي يقضي بالانتظار والترقب.. وأقنعت رؤساء قومها بنبذ فكرة الحرب مؤقتا، لأن الملوك إذا دخلوا قرية انقلبت أوضاعها وصار رؤساءها هم أكثر من فيها تعرضا للهوان والذل..
واقتنع رؤساء قومها حين لوحت الملكة بما يتهددهم من أخطار..
وصلت هدية الملكة بلقيس إلى الملك النبي سليمان..
جاءت الأخبار لسليمان بوصول رسل بلقيس وهم يحملون الهدية.. وأدرك سليمان على الفور أن الملكة أرسلت رجالها ليعرفوا معلومات عن قوته لتقرر موقفها بشأنه.. ونادى سليمان في المملكة كلها أن يحتشد الجيش.. ودخل رسل بلقيس وسط غابة كثيفة مدججة بالسلاح.. فوجئ رسل بلقيس بأن كل غناهم وثرائهم يبدو وسط بهاء مملكة سليمان.. وصغرت هديتهم في أعينهم.
وفوجئوا بأن في الجيش أسودا ونمورا وطيورا.. وأدركوا أنهم أمام جيش لا يقاوم..
ثم قدموا لسليمان هدية الملكة بلقيس على استحياء شديد. وقالوا له نحن نرفض الخضوع لك، لكننا لا نريد القتال، وهذه الهدية علامة صلح بيننا ونتمنى أن تقبلها. نظر سليمان إلى هدية الملكة وأشاح ببصره (فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) كشف الملك سليمان بكلماته القصيرة عن رفضه لهديتهم، وأفهمهم أنه لا يقبل شراء رضاه بالمال. يستطيعون شراء رضاه بشيء آخر (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ثم هددهم (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ).
وصل رسل بلقيس إلى سبأ.. وهناك هرعوا إلى الملكة وحدثوها أن بلادهم في خطر.. حدثوها عن قوة سليمان واستحالة صد جيشه.. أفهموها أنها ينبغي أن تزوره وتترضاه.. وجهزت الملكة نفسها وبدأت رحلتها نحو مملكة سليمان..
جلس سليمان في مجلس الملك وسط رؤساء قومه ووزرائه وقادة جنده وعلمائه.. كان يفكر في بلقيس.. يعرف أنها في الطريق إليه.. تسوقها الرهبة لا الرغبة.. ويدفعها الخوف لا الاقتناع.. ويقرر سليمان بينه وبين نفسه أن يبهرها بقوته، فيدفعها ذلك للدخول في الإسلام. فسأل من حوله، إن كان بإمكان احدهم ان يحضر له عرش بلقيس قبل أن تصل الملكة لسليمان.
فعرش الملكة بلقيس هو أعجب ما في مملكتها.. كان مصنوعا من الذهب والجواهر الكريمة، وكانت حجرة العرش وكرسي العرش آيتين في الصناعة والسبك.. وكانت الحراسة لا تغفل عن العرش لحظة..
فقال أحد الجن أنا أستطيع إحضار العرش قبل أن ينتهي المجلس –وكان عليه السلام يجلس من الفجر إلى الظهر- وأنا قادر على حمله وأمين على جواهره.
لكن شخص آخر يطلق عليه القرآن الكريم "الذي عنده علم الكتاب" قال لسليمان أنا أستطيع إحضار العرش في الوقت الذي تستغرقه العين في الرمشة الواحدة.
واختلف العلماء في "الذي عنده علم الكتاب" فمنهم من قال أنه وزيره أو أحد علماء بني إسرائيل وكان يعرف اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب. ومنهم من قال أنه جبريل عليه السلام.
لكن السياق القرآني ترك الاسم وحقيقة الكتاب غارقين في غموض كثيف مقصود.. نحن أمام سر معجزة كبرى وقعت من واحد كان يجلس في مجلس سليمان.. والأصل أن الله يظهر معجزاته فحسب، أما سر وقوع هذه المعجزات فلا يديره إلا الله.. وهكذا يورد السياق القرآني القصة لإيضاح قدرة سليمان الخارقة، وهي قدرة يؤكدها وجود هذا العالم في مجلسه.
هذا هو العرش ماثل أمام سليمان.. تأمل تصرف سليمان بعد هذه المعجزة.. لم يستخفه الفرح بقدرته، ولم يزهه الشعور بقوته، وإنما أرجع الفضل لمالك الملك.. وشكر الله الذي يمتحنه بهذه القدرة، ليرى أيشكر أم يكفر.
تأمل سليمان عرش الملكة طويلا ثم أمر بتغييره، أمر بإجراء بعض التعديلات عليه، ليمتحن بلقيس حين تأتي، ويرى هل تهتدي إلى عرشها أم تكون من الذين لا يهتدون.
كما أمر سليمان ببناء قصر يستقبل فيه بلقيس. واختار مكانا رائعا على البحر وأمر ببناء القصر بحيث يقع معظمه على مياه البحر، وأمر أن تصنع أرضية القصر من زجاج شديد الصلابة، وعظيم الشفافية في نفس الوقت، لكي يسير السائر في أرض القصر ويتأمل تحته الأسماك الملونة وهي تسبح، ويرى أعشاب البحر وهي تتحرك.
تم بناء القصر، ومن فرط نقاء الزجاج الذي صنعت منه أرض حجراته، لم يكن يبدو أن هناك زجاجا. تلاشت أرضية القصر في البحر وصارت ستارا زجاجيا خفيا فوقه.
يتجاوز السياق القرآني استقبال سليمان لها إلى موقفين وقعا لها بتدبيره: الأول موقفها أمام عرشها الذي سبقها بالمجيء، وقد تركته وراءها وعليه الحراس. والثاني موقفها أمام أرضية القصر البلورية الشفافة التي تسبح تحتها الأسماك.
لما اصطحب سليمان عليه السلام بلقيس إلى العرش، نظرت إليه فرأته كعرشها تماما.. وليس كعرشها تماما.. إذا كان عرشها فكيف سبقها في المجيء..؟ وإذا لم يكن عرشها فكيف أمكن تقليده بهذه الدقة ..؟
قال سليمان وهو يراها تتأمل العرش: (أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟) سورة النمل
قالت بلقيس بعد حيرة قصيرة: (كَأَنَّهُ هُوَ!)
قال سليمان: (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ).
توحي عبارته الأخيرة إلى الملكة بلقيس أن تقارن بين عقيدتها وعلمها، وعقيدة سليمان المسلمة وحكمته. إن عبادتها للشمس، ومبلغ العلم الذي هم عليه، يصابان بالخسوف الكلي أمام علم سليمان وإسلامه.
لقد سبقها سليمان إلى العلم بالإسلام، بعدها سار من السهل عليه أن يسبقها في العلوم الأخرى، هذا ما توحي به كلمة سليمان لبلقيس..
أدركت بلقيس أن هذا هو عرشها، لقد سبقها إلى المجيء، وأنكرت فيه أجزاء وهي لم تزل تقطع الطريق لسليمان.. أي قدرة يملكها هذا النبي الملك سليمان؟!
انبهرت بلقيس بما شاهدته من إيمان سليمان وصلاته لله، مثلما انبهرت بما رأته من تقدمه في الصناعات والفنون والعلوم.. وأدهشها أكثر هذا الاتصال العميق بين إسلام سليمان وعلمه وحكمته.
انتهى الأمر واهتزت داخل عقلها آلاف الأشياء.. رأت عقيدة قومها تتهاوى هنا أمام سليمان، وأدركت أن الشمس التي يعبدها قومها ليست غير مخلوق خلقه الله تعالى ***ره لعباده، وانكسفت الشمس للمرة الأولى في قلبها، أضاء القلب نور جديد لا يغرب مثلما تغرب الشمس.
ثم قيل لبلقيس ادخلي القصر.. فلما نظرت لم تر الزجاج، ورأت المياه، وحسبت أنها ستخوض البحر، (وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا) حتى لا يبتل رداؤها.
نبهها سليمان -دون أن ينظر- ألا تخاف على ثيابها من البلل. ليست هناك مياه. (إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ).. إنه زجاج ناعم لا يظهر من فرط نعومته..
اختارت بلقيس هذه اللحظة لإعلان إسلامها.. اعترفت بظلمها لنفسها وأسلمت (مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). وتبعها قومها على الإسلام.
أدركت أنها تواجه أعظم ملوك الأرض، وأحد أنبياء الله الكرام.
يسكت السياق القرآني عن قصة بلقيس بعد إسلامها.. ويقول المفسرون أنها تزوجت سليمان بعد ذلك.. ويقال أنها تزوجت أحد رجاله.. أحبته وتزوجته، وثبت أن بعض ملوك الحبشة من نسل هذا الزواج.. ونحن لا ندري حقيقة هذا كله.. لقد سكت القرآن الكريم عن ذكر هذه التفاصيل التي لا تخدم قصه سليمان..
حديث كرسي سليمان بن داود -صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما:
قال: حدثني أبي -رحمه الله تعالى- قال: حدثنا أحمد بن مهدي قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني أبو إسحاق المصري -رحمه الله تعالى- قال: زعموا أن كعب الأحبار لما فرغ من حديث إرم ذات العماد قال له معاوية أخبرني عن كرسي سليمان بن داود عليه السلام وما كان عليه ومن أي شيء هو.
قال: كان كرسي سليمان بن داود -صلى الله على نبينا وعليه وسلم- من أنياب الفيلة مفصصة بالدر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ وقد جعل درجة منها مفصصة بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ ثم أمر بالكرسي فحفف من جانبيه بالنخل نخل من ذهب شماريخها من ياقوت وزبرجد ولؤلؤ.
وجعل على رءوس النخل التي على يمين الكرسي طواويس من ذهب ثم جعل على رءوس النخل التي على يسار الكرسي نسورا من ذهب مقابلها طواويس، وجعل على يمين الدرجة الأولى شجرتي صنوبر من ذهب وعلى يسارها أسدين من ذهب وعلى رءوس الأسدين عمودين من زبرجد.
وجعل من جانبي الكرسي شجرتي كرم من ذهب قد أظلتا الكرسي وجعل على عناقيدها درا وياقوتا أحمر، ثم جعل فوق درج الكرسي أسدين عظيمين من ذهب مجوفين محشوين مسكا وعنبرا.
فإذا أراد سليمان بن داود عليهما السلام أن يصعد على كرسيه استدار الأسدان ساعة ثم يقفان فينضخان ما في أجوافهما من المسك والعنبر حول كرسي سليمان بن داود عليهما السلام، ثم يوضع منبران واحد لخليفته والآخر لرئيس أحبار بني إسرائيل ذلك الزمان.
ثم أمام كرسيه سبعون منبرا من ذهب ليصعد عليها سبعون قاضيا من أحبار بني إسرائيل وعلمائهم وأهل الشرف منهم والتقوى، ومن خلف تلك المنابر كلها خمسة وثلاثون منبرا من ذهب ليس عليها أحد، فإذا أراد أن يصعد على كرسيه وضع قدميه على الدرجة السفلى فاستدار الكرسي كله بما فيه وعليه فيبسط الأسد يده اليمنى وينشر النسر جناحه الأيمن.
حتى إذا استوى سليمان عليه السلام على الدرجة الثانية وقعد على كرسيه قاعدا أخذ من تلك النسور نسرا منها عظيم تاج سليمان عليه السلام فوضعه على رأسه، فإذا وضعه على رأسه استدار الكرسي بما فيه كما تدور الرحى المسرعة.
قال معاوية -رضي الله عنه- وما الذي يدور به يا أبا إسحاق قال: تنين من ذهب ذلك الكرسي عليه وهو عظيم مما عمله صخر الجني، فإذا أحست بدورانه تلك النسور والأسد والطواويس التي في أسفل الكرسي إلى أعلاه درن معه فإذا وقف وقفن جميعا كلهن منكسات على رأس سليمان عليه السلام وهو جالس.
ثم ينفخن جميع ما في أفواههن من المسك والعنبر على رأس سليمان عليه السلام وهو جالس تتناول حمامة من ذهب واقفة على عمود جوهر التوراة فتجعلها في يده فيقرؤها سليمان عليه السلام على الناس فإذا قرأها عليهم دعا الناس إلى القضاء وجلس قضاة بني إسرائيل على منابرهم عن يمينه وعن شماله حافين حول كرسيه.
حتى إذا قرب الشهداء للشهادات دار التنين بالكرسي كدور الرحى المسرعة، واستدارت الأسود وخفقت النسور بأجنحتها ونشرت الطواويس أذنابها ففزعت الشهداء وتخوفوا على أنفسهم عندما يرون من السلطان فداخلهم من ذلك رعب شديد.
فيقول بعضهم لبعض: والله لنشهدن بالحق فإنا إن نشهد اليوم بالباطل لنهلكن فكان هذا يا أمير المؤمنين أمر كرسي سليمان بن داود عليهما السلام وعجائب ما كان فيه .
فلما توفي سليمان عليه السلام بعث بختنصر بعده فأخذ ذلك الكرسي معه فحمله إلى أنطاكية فأراد أن يصعد عليه ولم يكن له علم بالصعود عليه ولا بحاله فلما وضع قدماه على الدرجة رفع الأسد يده اليمنى فضرب بساقه التي في الأرض فدق ساقه .
قال معاوية -رضي الله عنه- وكيف ذلك يا أبا إسحاق قال: كعب -رحمه الله تعالى- كان سليمان بن داود عليه السلام إذا أراد الصعود وضع قدميه جميعا ثم ثبت بقدميه جميعا.
وإن بختنصر رفع رجلا ووضع رجلا فضرب الأسد ساقه التي لم يرفعها من الأرض فدقها ورجع بختنصر -لعنه الله- وحمل إلى منزله فلم يزل يعرج منها حتى مات -لا رحمه الله- وكان الكرسي بأنطاكية حتى هزم خليفة بختنصر فنقل الكرسي إلى بابل فلم يزل ببابل حتى هلك خليفة بختنصر -لعنهما الله تعالى- وملك فارس من ملوك الفرس فحمل ذلك الكرسي.
قال معاوية -رضي الله عنه- وما اسم ذلك الملك قال كان يسمى كداس بن سداس فحمله من بابل ورده إلى بيت المقدس فوضعه تحت الصخرة، فلم ير أحد وقع في يده من تلك الملوك الركوب على كرسي سليمان عليه السلام بعده ولا القعود عليه ولا يقعد عليه بعد ذلك ولم يدر أين هو ولم ير أحد أثره إلى الساعة.
وفاته عليه السلام:
عاش سليمان وسط مجد دانت له فيه الأرض.. ثم قدر الله تعالى عليه الموت فمات.. ومثلما كانت حياة سليمان قمة في المجد الذي يمتلئ بالعجائب والخوارق.. كان موته آية من آيات الله تمتلئ بالعجائب والخوارق.. وهكذا جاء موته منسجما مع حياته، متسقا مع مجده، جاء نهاية فريدة لحياة فريدة وحافلة.
لقد قدر الله تعالى أن يكون موت سليمان عليه الصلاة والسلام بشكل ينسف فكرة معرفة الجن للغيب.. تلك الفكرة التي فتن الناس بها فاستقرت في أذهان بعض البشر والجن..
كان الجن يعملون لسليمان طالما هو حي.. فلما مات انكسر تسخيرهم له، وأعفوا من تبعة العمل معه..
وقد مات سليمان دون أن يعلم الجن، فظلوا يعملون له، وظلوا مسخرين لخدمته، ولو أنهم كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
كان سليمان متكئا على عصاه يراقب الجن وهم يعملون. فمات وهو على وضعه متكئا على العصا.. ورآه الجن فظنوا أنه يصلي واستمروا في عملهم. ومرت أيام طويلة.. ثم جاءت دابة الأرض، وهي نملة تأكل الخشب.. وبدأت تأكل عصا سليمان.. كانت جائعة فأكلت جزء من العصا.. استمرت النملة تأكل العصا أياما.. كانت تأكل الجزء الملامس للأرض، فلما ازداد ما أكلته منها اختلت العصا وسقطت من يد سليمان.. اختل بعدها توازن الجسد العظيم فهوى إلى الأرض.. ارتطم الجسد العظيم بالأرض فهرع الناس إليه..
أدركوا أنه مات من زمن.. تبين الجن أنهم لا يعلمون الغيب.. وعرف الناس هذه الحقيقة أيضا.. لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين، ما لبثوا يعملون وهم يظنون أن سليمان حي، بينما هو ميت منذ فترة..
بهذه النهاية العجيبة ختم الله حياة هذا النبي الملك.